في الشهور القليلة الماضية كثرت الرسائل التي يصرح فيها اصحابها عن اعجابهم الشديد بنمط حياتي اللا-اجتماعي، خصوصآ هؤلاء الذين اتطلعوا على كتابي "تراجيديات سجين" و صراحة لم اهتم كثيرآ، لم تكن نظرتي لهؤلاء غير انهم مجرد فضوليون، و لكنني فهمت شيئآ واحدآ فقط من كل تلك الرسائل، و هو ان علاقاتهم الإجتماعية اثقلت كاهلهم و ادمت قلوبهم و شوهت نفوسهم مما دفعهم الامر الى الرغبة بالانعزال و الاستقلال، و تكمن المشكلة في ان الانسان يعتقد دائمآ ان الحلول تكمن في النواقض، يشعر بالحزن فيعتقد انه بحاجة للبحث عن السعادة، يشكو قلة المال فيعتقد ان المال هو كل شئ في الحياة، و نجد ان السعداء يميلون للحياة التي طابعها الحزن و الاغنياء يميلون للحياة التي طابعها الفقر معتقدين انهم سوف يجدون مغامرات متعددة طابعها المرح، و هؤلاء الاجتماعيون السخفاء يراسلونني معتقدين ان في الانعزال و الوحدة راحة لنفوسهم و طمأنينة لقلوبهم، و نسوا او تناسوا ان للضد او النقيض متطلباته و ان للتوحد متطلباته ايضآ.
قد يريحكم الانعزال عن امور كثيرة مزعجة و لكنه بقدر ما قد يعطي من راحة، يأخذ اضعافآ منها، خاصة مع أشخاص يشبهونني، أشخاص موسوسين مثلي، خيالهم أخصب ما يكون لزراعة أكثر الأفكار رعبآ و بشاعة و سخافة، هل تتذكرون اليوم الذي حدثتكم فيه عن الحوار الذي دام لساعة او اكثر بيني و بين ضب كان يقتات على الحشرات التي كانت حول مصباح غرفتي، لم يكن الامر إلا مجرد افكار سخيفة راودت ذهني و انا أراه يمارس حقه البسيط في الأكل مثل كل الكائنات الاخرى بما فيهم الانسان، ربما يمر اليوم و ينتهي في هدوء بعيدآ عن صخب المجتمع و علاقاته، لكن حين تأتي لحظة الذهاب للنوم، اياك و الظن ان الامر سوف يكون بمثل ذلك الهدوء، سوف تأبى عيناك الاسترخاء في ذلك الصمت القاتل الذي يملأ الغرفة و يطبق على روحك و أنفاسك، حينها صدقني سوف تقرر أنك بحاجة لسماعة معك في الغرفة تضعها على اذنيك، و من ثم تقوم بتشغيل الراديو على إذاعة القرآن الكريم، لا يوجد شئ تفعله افضل و اكثر طمأنينة من هذا، في اوقات كثيرة ستنام بعد ذلك و ستشعر براحة كبيرة، و لكن هنالك اوقات ستمر عليك، ايام ستدرك فيها ان الراديو ليس كافيآ، و أن الاستماع حتى لإذاعات مثل اذاعة القرآن الكريم لا يملأ ذلك الفراغ الموجود بوعيك اللعين و لا تلك التشوهات الموجودة بنفسك السوداء، حينها صدقني انك سوف تقرر انك بحاجة لصوت و صورة على الأقل، أنت بحاجة لتلفاز او الى شاشة هاتفك اللعينة، لكنك تدرك بعد ذلك أنه ليست كل البرامج يمكن تشغيلها وقت النوم، اعني ليست كل البرامج تساعدك عل النوم، هناك فيديوهات او قنوات سوف تلفت أنظارك مثل فيديوهات "زول ثقيل" او فيديوهات "Anwar Jibawi" او فيديوهات "زي الكتاب ما بيقول" و إن لم يلفت أنظارك شئ فسيلفت مسامعك شئ، و هكذا تقرر أن تقوم بتشغيل مالا ترغب في مشاهدته في هذا الوقت بالتحديد أو حتى سماعه، فكل ما سيهمك وقتها هو الإحساس بالونس.
مباراة كرة قدم ؟، أنت لا تحب كرة القدم، لكنها برغم ذلك صاخبة للغاية و لا تصلح كموضوع للاسترخاء، ماذا عن مشاهدة فلم او مشاهدة المصارعة الحرة، ماذا عن قناة إسلامية ؟ هذا مطمئن للغاية لكنه برغم ذلك سيلفت مسامعك التي ستوقظ مشاعر الذنب لديك في غير وقتها، خصوصآ في الاوقات التي تكون فيها علاقتك بالله ليست جيدة، متى كانت آخر مرة صليت فيها علي كل حال ؟، ستجد امامك الكثير من الخيارات و لكنك لا تستطيع الاختيار و قد ينتهي بك الامر مثلما حدث معي بالامس، بمشاهدة حلقة من مسلسل عصابة البيكي بلايندرز و ذلك لأنك معجب فقط بشخصية توماس شيلبي، و في اوقات كثيرة سوف تختار قناة للطبخ ؟ نعم هذا ما سيحدث دائمآ و لكنك رجل و ليس إمرأة، و رغم ذلك سوف تختار قناة للطبخ، و لأكون اكثر دقة سوف تختار قناة فتافيت، و هي قناة مصرية على ما اعتقد، قناة سخيفة جدآ، لكنها القناة الوحيدة التي تمنحك شعورآ بالأمان و الاستقرار و الطمأنينة، تشعرك بأن الدنيا ما زالت بخير، و ان العصافير تغرد في الحديقة، و بأنه مازال هناك الكثير من الوقت قبل أن تشتعل الحروب و ينتهي العالم، انا لم اخبرك ان هناك افكار سخيفة ستملأ رأسك حول نهاية العالم، هذه القناة بالتحديد ستجعلك تكون مستعدآ و راغبآ بتلك النهاية، هكذا تضبط شاشة هاتفك او تلفازك على تلك القناة الدافئة و تدثر نفسك بالغطاء ناظرآ نحو الشاشة في غير فهم لما تقوله تلك الإيطالية أو الإسبانية أو المكسيكية او الامريكية أو المصرية، لا يهم جنسيتها و لكنها من حسن حظك انها لن تكون مطلقآ سودانية، عيناك وقتها سوف تبدآن في الاسترخاء، لكنك لن تستسلم الآن، سترى ان تلك المرأة الجميلة تقوم بتقطيع نبات ما من تلك النباتات التي لا و لن تجدها أبدآ في السوق، و لا تدري لماذا يضعون مكونات الوصفة مكتوبة في حين انها لا توجد اصلآ مكونات كهذه، تقوم المرأة بوضع بعض التوابل التي لو قلت اسم أحدها لأي بائع توابل لضرب كفآ بكف و التفت لزبون غيرك في صمت، بعدها سترى المرأة تجلب إحدى الخضروات او الفواكه، و من ثم تقوم بشطرها نصفين، ثم تعصر إحداها داخل الطبق، لا أذكر حقآ أن الفواكه او الخضروات كانت بهذه الضخامة يومآ، إن الواحدة منها في حجم بطن المرأة الحامل، و لو أنني رأيتها في السوق للعنت في سري تلك الكيماويات التي يضعونها على الخضروات و الفواكه فتصير أضخم مما هي عليه، انا لم انتهي بعد، الآن تجلب المرأة شيئآ يشبه لحم البقر و لكنك عميقآ تحس ان هذا ليس بلحم بقر، ربما لحم خنزير او كلب او حمار، المهم انها تقوم بتقطيعه الى شرائح ثم تلقيها داخل الطبق، ثم تخلط كل شئ معآ و تضعه في الفرن، ثم تعود بعد الفاصل في لمح البصر لتخبرك بكل بساطة ان الطعام قد نضج و انتهى و بالهناء و الشفاء.
منزعج ؟ بالطبع نعم، من اخبرك اصلآ ان في الانعزال راحة، من اعطاك حق الاعتقاد ان نمط حياتي مريح للغاية، انا لم انتهي بعد، دعني انهي كلامي السخيف هذا بمقولة "ان لا ثابت في الحياة الا التغيير" نعم كل شئ يتغير دائمآ، لكنه حين يتغير يتحول بمرور الوقت لروتين تظنه سيدوم للأبد، و تنزعج حين يتغير مرة أخرى ليحل مكانه روتين آخر، الأمر ليس بهذه البساطة، خاصة مع اشخاص يحبون الانعزال مثلي و ليس مثلك، اشخاص يتغذون على الروتين مثلي، هل اخبرتك ماذا حدث منذ ايام، تلك قصة اخرى ستكتشف من خلالها ان الانعزاليون هم اشخاص اجتماعيون و لكن اتجاه امور اخرى، منذ أيام تعطلت بطاقة الذاكرة الخاص بي مؤقتآ، حتى انني لم أعد قادرآ على اجراء عملية النسخ المعتادة، الذاكرة اللعينة تظهر كل المحتويات و لكنها لا تسمح بنسخها او نقلها او حتى تشغيلها، قالوا لي ان الحل في تهيئة الذاكرة، و لكنني سأخر كل محتوياتها، هذا يعني اغاني المفضلة، كتبي التي اقرأها، صوري و فيديوهاتي التي لا ارغب بحزفها، ما كان مني غير انني وضعتها في "صندوق الذكريات" مع شخص مثلي لا يعني الأمر مجرد فقدان ملفات يمكن استبدالها او تنزيلها من جديد، أو حتى مجموعة من الصور او الفيديوهات يمكن التقاطها من جديد، و إنما فقدان لذكريات رائعة، لروتين يصعب تصور حياتي بدونه، و ذلك لأنني مهتم جدآ بتاريخ كل ملف و الذي يمكن الرجوع اليه بضغطة زر من التفاصيل، كذلك الأمر مع هاتفي القديم الذي مازلت أحتفظ به رغم أنه ميت كليآ، و كذلك محاضراتي القديمة، الاشخاص امثالي يعانون من مشكلة مزمنة في التخلص من تلك الأشياء العزيزة، اعني الاشياء التي لهم معها ذكريات على وجه الخصوص، حتى لو جلبت نسخ أخرى منها بنفس الملامح، لن يعود ابدآ الأمر كما كان، لا زلت احتفظ بصور فوتوغرافية للفتاة التي احببتها من سنوات بعيدة جدآ، و التي لا اعلم الان، هل حية ام ميتة، متزوجة و لها اطفال ام عزباء، معافاة في جسدها ام مصابة بداء يسرق منها ثواني عمرها، إنها "روح الأشياء" كما أحب أن أسميها، روح الأشياء التي هي بالنسبة لأشخاص مثلنا أوفى الموجودات و أقربها لنا أكثر من أي بشر.
إرسال تعليق