في غرفتي غالبآ ما استلقي على السرير الذي يوجد في اقصى اليسار، بعيدآ عن الباب و قريبآ من الزواية التي تكون اقل اضاءة، لسببا ما اجد نفسي مرتاحآ جدآ و لسبب ما اسرتي تعيد تريب نمط الغرفة كل فترة عدا تحريك ذاك السرير من موضعه، لا تزال تلازمني عادتي في الاستلقاء على ظهري ناظرآ الى سقف الغرفة واضعآ يدي اليمنى على اليسرى و كلتاهما على صدري، استعيد وقتها بعض الذكريات القديمة التي تمتد من الطفولة الى المراهقة و التي تبزغ في ذهني و بشكل سريع دون ان استدعيها و معظم تلك الذكريات ليس لها صلة واضحة بالحاضر، كما لو ان عقلي الباطن يقوم بعرضها علي تلقائيآ كلما اتخذت تلك الوضعية في الاستلقاء، لكن الليلة الماضية و لأول مرة، حصل امر غير متوقع، شئ ما على السقف ظهر فجأة جعل من عملية انسياب تلك الذكريات تتوقف كما لو انها لم تبدأ أصلآ، لم أستطيع ان ازيح نظري عنه و استمر تأملي له طويلآ، بالرغم من ان المشهد كان عادي و متكرر في حياتنا، إلا أن بنيته الشاذة كانت اكثر ما لفت انتباهي، حركته البسيطة و سكونه و هدوءه، بقع اللون الابيض الممتد على طول امتداده، هذا بالضبط ما جعل ذلك المشهد مميز بالنسبة لي، بساطته و عاديته و إهماله للأرض الجوفاء و اهتمامه بالنور الناتج من مصابيح الغرفة، و أخيرآ عينيه اللتان حدقتا بي لوهلة من الزمن كما لو اننا نتشارك بعض الجازبية في الإنطباع الناتج من النظرة الاولى.
بدأت أتأمله أكثر و اكثر، اراقب تحركاته و نظراته، و كلما واصلت التحديق به، كلما شعرت بمشاعر كئيبة تغمرني و لكنها عنيفة في ذات الوقت، بدا لي كأنه وحيد مما جعلني اشعر ان هذا هو اول قاسم مشترك بيننا، تلك المشاعر بدأت تتملكني و تلتف حول قلبي و من ثم بدأت تسحبني للنظر في عينيه مباشرة، رأيت نفسي في داخلهما، ظلام حالك و اعماق سحيقة و داكنة، فبدأت اتململ في مكاني كما لو انني اريد منه ان يلتف و يكف عن التحديق بي، و لكنه لم يفعل، هذا الوضع بدا غير مألوف لي و مقلق بالنسبة لي، فأطفأت الأنوار من الغرفة، شعرت انه يحب النور و ليس الظلام، و ظننت انني لو سرقت منه النور سوف يكف عن التحديق بي، و لكن لم تمر اقل من دقيقة حتى بدأ يصدر اصواتآ شعرت فيها انه يطالبني بإعادة النور، شعرت أنه موجود في مكانه لا لشيء، إلا ليذكرني بتوحدي، بأفكاري المشوشة و الجيدة، و على وجه الخصوص بنفسي، بالبهجة التي كنت اشاركها الناس و من ثم غادرتها، بالايام الطيبة التي أحببتها، بالقرية البسيطة التي امضيت فيها اولى سنوات عمري، بالشوارع الضيقة لبحري التي كنت اطارد فيها اصدقائي، و لا أنسى الأبنية العشوائية المبنية من الطين و الملطخة ببقايا الحيوانات -الزبالة- لتعكس بساطة الحياة التي كنا فيها، شعرت انه يريد فقط ان يستبدل ذكرياتي السيئة المتكررة التي اعتدت عليها بتلك الجميلة التي نسيتها.
اعدت النور من جديد للغرفة و عندها رأيته يشيح بنظره عني بعيدآ، و بدأ يتحرك بإتجاه مصدر الضوء، كما لو انه اراد ان يخبرني ان المعنى الحقيقي للحياة ليس في ان نرى النور، بل أن نطالب به و ان نقترب منه، لأن الانسان كلما اقترب منه سيشع عليه أكثر صحة و سعادة و إن كنا قد ولدنا في الجزء الحالك السواد، فهذا أدعى لنا أن نهرب منه إلى حيث يمكن للنور أن يصل إلينا، إن الذين لا يتصالحون مع النور، لا يمكن لهم أن يحققوا اي تقدم في أي جانب في حياتهم، شعرت وقتها ان تلك اللحظة التي رأيته فيها يقترب من النور اكثر، من اعظم و اجمل اللحظات التي رأيتها، إلا أن احساسي بها لم يدم طويلآ حين رأيت مخلوقآ ضعيفآ لا حول له و لا قوة له يقع فريسة سهلة في فمه، و ادركت وقتها ان النور لا يختلف في شئ عن الظلام، كلامهما الطعم الذي يغوي القوي منا ليستبد الضعيف فينا، فبعض الناس مثل الضب الكسول في أيام الشتاء داخل غرفتك، يظل ملتفآ حول النور لا يخرج من فمه السم، لكنه ينتظر الفرصة التي تمكنه من أن يأكل فيها لحمك و انت حي.
إرسال تعليق