حسنآ يا صغيرتي كتبت كثيرآ عن الامر، كتبت عن اوجاعي، عن تشردي، عن تمردي، ربما ظهرت في كل التراجيديات السجينية السابقة بصورة الرجل المهزوم المكسور جناحه، الرجل الذي فتك به الحب و مزقته الخيانة، و الحق لقد اعترفت لك بكل شئ من اول تراجيدية -نوفمبر الحزين- الى اخر تراجيدية -في ذكرى لقاءنا الاول- و كل ما ما قلته لك يا جميلتي كان صادقآ، لكنني لم اعترف لك عن ما كان يؤلمني اكثر، لم اعترف لك عن مدى تخلفك و غبائك و عنصريتك، لم اقل لك يومآ الحقيقة التي تفطر قلبك و تحطم مثاليتك السرابية.
انت صورة متكررة و نمط باهت متشطط، و لو انني اردت ان اقولها لك بصورة اوضح، انا لا اكن لك اي احترام الان، لا احمل لك اي مشاعر الان، لا كرهآ و لا شوقآ و لا حتى حقدآ، كيف نمنح احدآ جزءآ من مشاعرنا و هو فاقد للحس الانساني مثله مثل معظم الذين يصدحون رؤوسنا صباحآ و مساء في هذه البلاد، ابتداء من الذين يسمون نفسهم حكومة انتقالية جديدة الى الذين يسمون نفسهم تحالف الحرية و التغيير و انصار الشريعة و القانون و الاسلاميين، مرورآ بالذين نطلق عليهم ثوارآ و لجانآ و مهنيين، انت مثلهم تتلعثمين عندما يبدأ الحديث عن مصطلحات كبيرة بحجم دولة، حرية، ديموقراطية، صحافة، إعلام، رأي عام، هوية .. دين .. هنا توقفي قليلآ في آخر كلمة، أليس الدين عندك فقط هو الممنوعات و الحلال و الحرام، أليس الدين عندك مجردآ من التسامح و المودة و الرحمة، أليس الحديث عنه عندك يصبح بزقآ يجرد الدين من معناه الحقيقي، انت مثلهم و ما اكرهني لفتاة تحمل افكار غيرها و ما احوجني الى زوجة تحمل فكرها و تقدس عقلها، ليس غريبآ ان تكون كل التراجيديات السابقة تحمل الصدق المخلوط بالوجع، ليس غريبآ ان تنتهي قصتنا لأنني احمل فكرآ يختلف عن فكرك، احمل رأيآ لا يتوافق مع آراءك السامية المبجلة، فالكل يرى نفسه فوق الجميع، بأفكاره و معتقداته و هويته و لسانه.
لا أتذكر جيدآ يا صغيرتي متى بدأنا تحديدآ بالسقوط في هذه البئر العميقة، ربما هو شيء أكبر من عمري، أو أكبر من فهمي و يتجاوز حدود معرفتي، لكني أذكر كل مرة كانت الألسن تتجاوز الحد مثلما يحدث في كل بقاع السودان، فليس خطأ مني لو وضعت القضية على الطاولة و اطلقت حكمي عليها، حتى لا يظهر احساسك الداخلي المظلم ككره يبدو جليآ لي، أليست نهاية قصتنا الان جميلة لأنها انتهت دون كره بيننا، متى كان يفضحنا يا صغيرتي أن نقف محاولين الدفاع عما نسميه قضايا، نتلعثم نعم، حين نكرر في دواخلنا بأننا أعظم من هذا الزمان الذي وجدنا فيه كما الان يصيح كل سوداني انطوى للثورة واصفآ نفسه، و البعض يقول أننا نتجاوز المكان و الزمان ذاته، و أننا لا نشبه غيرنا في النسيج الاجتماعي، في الفكر، في الثورية، و اننا و أننا و أننا، و الحقيقة المرة هي أننا نكرر و نتكرر، دون أن نعي أننا لسنا إلا مجرد إمعة، نتشبه بكل شيء، و أننا منذ عقود فقدنا ذواتنا الحقيقية، و أصبح لنا ألوان عدة، وأشكال مختلفة، و مذاهب سياسية و دينية و قبلية و أعراق و أعراف و تقاليد و عادات و أشياء لا نعيها ربما، لكنها ترسبت فينا و تكرست و تعمقت و أصبحت هوية جديدة لنا.
أنا سوداني نعم و افتخر بذلك و افاخر به، و لكن ما كان يؤلمني اكثر يا جميلتي هو اتهامك لي بالحياد، محاولاتك لتدليس فكري لانه في نظرك مخالفآ لأفكار الاسرة الحميمة التي تربيت عليها، اتهامك لي بأنني ارى نفسي كأنني نيون الرب و منبع للمثالية، كنت وقتها ادركت كلمات ابي، عندما قال لي "الانسان يبقى انسان ما بقي فكره و انجازة"، انا يا حلوتي لا أدعي شيئآ عظيمآ، صنعت حياة بسيطة، و ارديت ملابسآ بسيطة، احب البسطاء و الذين لا يراءون و لا يظهرون ما يملكون، انا لا أدعي فهمآ عميقآ لما يحدث و لم اغضب يومآ من احد لم يتقبل فكري، انا لم احاول يومآ اقناعك بأفكاري، لكني إنسان أرجع كل شيء الى فطرته الأولية، أسحب الأشياء مما يلتصق بها من شوائب، لا أحب الخطابات المليئة بتعظيم الهوية و الأعراق، لم انكر يومآ انك جئت من عرق جميل، عرق دمه لا ينجب الا ذوات العيون الجميلة، مالكات الجمال بكل معانيه، و لكنك تناسيت او نسيتي انني أعتبر الأمر بسيطآ جدآ، حيث انني لم انظر اليك و الى نفسي من باب تلك العرقية، أنا هنا ربما لحكمة إلهية و هذا هو كل ما يهمني، لحكمة يعلمها الله، و لو أن هناك حكمة أخرى، لكنت الآن ربما من عرق هندي أحمر في أقصى الأمريكتين، أصابه مصير آخر، لقد اخطأت عندما ظننت انني رجل يمكن ان تتفاخري بعرقك امامه.
لساني الذي أتحدث به لغات عدة و قلمي الذي اكتب به ما يحمله عقلي هما فخري الوحيد، لأني أجتهد لأكون لنفسي ثقافة و معرفة أواجه بهما هذا العالم، لأعرف أكثر، ليس بي فخر اتجاه شيء لم أحققه بنفسي، أنا أفخر بانجازاتي الذاتية، باجتهادي لنفسي، لتكويني لنفسي، أفخر بأني أستطيع أن أبحث عن شيء لأقنع حاجتي لمعرفته، أفخر أني لا اصادر بفكر أحد و لا اقتنع بفكر احد، و لا ألوم أحدآ يفعل ذلك، فلو كانت معايير التفاخرية عندي اختلفت عن ما هو عندك، كان حري بنا قبول اختلافنا و لكن لأكون اكثر صراحة، انا لم اتخلى عنك لأنني كرهتك، لقد احببتك رغم ما فيك، و الحب لا يميز بين العرق و الفكر و الاختلاف، لقد احببتك يا صغيرتي، لذلك بدأت هذه التراجيديات بحبي، بخوفي عليك، بشوقي اليك، بوجعي و المي و دمي الذي نذف من قلبي، لكنني انعزلت عنك، لأن محاولات التشويش على كل شيء في هذا الوطن تجعلني أنعزل، لا أحب هذي النقاشات التي أصبحت تقسمنا، نحن لم نعد قلبين في قلب واحد، مثلما السودان لم يعد وطنآ واحدآ، ولا شعبآ واحدآ، أو دعيني اقولها لك بوضوح اكبر و بلغة أكثر صدقآ، نحن لم نكن كذلك يومآ، لأننا لم نتقبل يومآ حقيقة أننا مختلفون، و أن هذا الاختلاف إنما هو رحمة من الله، نحن نحاول في كل مرة أن نظهر أننا على حق، و أن من نختلف عنهم و معهم على باطل، هويتنا الأحق، و هويتهم مزيفة، مستوردة، لساننا فصيح، و لسانهم عاجز عن التعبير، نحن عرب و هم افارقة، نحن افارقة و هم عرب، او نحن عرب فقط او نحن افارقة فقط، لا يكفينا في وطن بحجم كذا دولة أن يغني فنان واحد "ان في الاختلاف وحدة"، لنجتمع جميعآ على قوله، نحن متفرقون يا صغيرتي مهما غنوا عن الحب، مهما صدحوا عن الوحدة، معما كتبوا و كتبنا عن السودان الجديد، نحن متفرقون يا جميلتي مهما كان عرقك جميلآ يرغب الجميع في ان يحمل دماءه، انا و انت لسنا نبضآ واحدآ مثلما كل الوطن ليس شعبآ واحدآ، ما دمنا نكره اختلافنا، ما دمنا نخون بعضنا، ما دمنا لا نترك فرصة إلا لنهاجم بعضنا، و نصنف البعض الآخر الى أعراق و هويات و ألسن و لغات، نحن مجموع شعوب في بلد واحد هكذا هم يعتقدون، كل شعب يرى نفسه فوق الآخرين، نحن قطيع قبائل برية تأكل بعضها هكذا هم يبجلون العرق و القبلية، و الوطنية هي الضحية المسكوب دمها، و نقطع صكوك الانتماء لمن نريد، و لا ننسى طبعآ أن نقطع أيضا تذاكر الدخول إلى الجنة و النار.
في ختام هذه التراجيديات يا صغيرتي، أتذكر في كل هذه الحمى اللعينة التي تصيبنا، شيئآ جميلآ واحدآ، ان قلبك ابيض و طاهر و روحك جميلة رغم ما فيهما ظلام، و ان الذي يمكن ان يجمعنا الان كشعب واحد هو كل الضحايا الذين رحلوا من مختلف كل تلك الاعراق و القبائل و الشعوب على مدار تاريخنا، اولئك الذين حملوا فكرآ جميلآ لهذا الوطن و ماتوا شهداء من اجله، هم الوحيدون الذين يطفون على سطح كل هذا الصخب و اللاجدوى، الوحيدون الذي يستطيعون أن يقدموا وحدة مترابطة لكل اجزاء هذا الوطن ثمنها دماءهم، دون أن ينتظروا من أحد أن ينصبهم ممثلين عن الشعب، أو ناطقآ رسميآ باسمه، أو رئيسآ مفخرة له، في بلد لم يعد فيه طعم و لا لون و لا رائحة لشيء، سوى الفتن، فالميت لا يعود، فالتكوني يا جميلتي بخير و اقبضي بيديك و فكي فمك الجميل على ذلك القلب الابيض و تشربي بروحك الجميلة، ذلك اخر ما تبقى لك قبل ان تكوني مثلهم، اما انتم دعوا الشهداء بعيدآ عن حروبكم المزيفة، هم أقدس من أن تلوث أسماؤهم بالشعارات و الخطابات والعفن.
إرسال تعليق