هناك نفحات من الماضي القريب دائمة التردد في ذاكرتي، ولادتي مع بداية التسعينات و طفولتي التي امضيتها بين إقري و الخرطوم، أحذيتي المهترئة و المعاد خياطتها لأكثر من خمس مرات، ابي الذي كان يبيع اللحمة في سوق يسمى الرواسي بالحاج يوسف، و "سفنجاتي" التي اسند دعاماتها بقطعة قماش بعد ان تمزقها المسامير، المقاعد البالية في مدرستي الاساسية التي كانت تسمى معاذ بن جبل، معلمتي المفضلة التي لازلت حتى هذه اللحظة اتذكرها و التي غادرت نفس المدرسة بعد ان غادرت اسرتي الحاج يوسف لتستقر في بحري لانها لم ترضى مفارقتي، استاذة مقبوله، و الكتابات عديمة المعنى التي تملأ كراسات المدرسة و تملأ الجدران، رسائل الحب التافهة التي كتبتها في تلك المرحلة لبنت استاذتي مقبوله و التي كنت اضرب بسببها امام زملائي، كتابات الغزل البريئة لصفاء و خديجة و وداد و سلمى، كتابات الغزل الفاحش في بعض من عرفتهن و افتقاري للشجاعة الكافية لإعطائها لهن و احتفاظي بها لسنوات و من ثم التخلص منها حينما علمت ان هذه خطوط حمراء لا يجب تخطيها، انتظاري المستمر لمناداة جارتي الجميلة لي و ثم إرسالي لشراء كيلو سكر فأقوم "بلحس" جزء كبير منه و اخبئ بعضآ منه و اجلب لها الباقي.
إيقاظ ابي لي ليصحبني معه إلى صلاة الصبح و هروبي بعد إفلاتي من يده في منتصف الطريق، العاب الفيديو العظيمة و ليست العاب الفيديو الحالية التافهة، ماريو و صيد الحمام بتوجيه الأشعة الليزرية للشاشة و سونيك، ملك النمور و الاتاري، لعب الكرة في الشوارع وتعمير مرمى من الحجارة، لعب الكرات الزجاجية الصغيرة التي كنا نسميها "البلي" و الإنبطاح فوق التراب و الحصى و القذارة و الجروح البليغة من جراء ذلك على قبضتي و ركبتي و مرفقي و لا انسى لعبتي المفضلة "سلكت" التي كنت انتقم بواسطتها من الاطفال الذين لا استطيع ضربهم و اخاف منهم بتوجية الكرستالة البلاستيكية نحو رؤوسهم و الاورام التي تظهر لاحقآ عليها، العراك الدائم بيني و بين صديقي نيال الذي ربما الان عاد ليستقر في دولة جنوب السودان، المنافسة الدراسية بيني و بين صدام و حاتم و ابوبكر في مدرسة معاذ بن جبل علي المركز الاول و من ثم انتقالها لاحقآ بمدرسة التضامن بيني و بين ايمن و البشير و احمد، و لا انسى رفيقة طفولتي المفضلة سبيستون، عهد الأصدقاء، سلام دانك و حسان و جسارته و جرأته و خفة ظله، داي الشجاع و ضربته الشهيرة، فان داي القاضية، صراع الجبابرة و عبد الرحمن و حمزة و حكمت، سيزار بشخصيته القوية، سيزار و ليس الكابتن رابح الهزيل شديد التهذيب، بسام ، بسام الصارم و ليس الكابتن ماجد التافه، غون و كيلوا وكورابيكا وليوريو و غيرها الكثير من نفحات الماضي الجميل.
إن هذه الأشياء بالنسبة لي هي الدليل القوي الصارم على أنني من الجيل المحظوظ و الناجي الأخير في هذا الوطن، الجيل الاخير الذي سوف يحكي لأبنائه عن طفولة بسيطة و بريئة بعيدة عن الاجهزة الذكية و الدراما التلفازية، هذه النفحات أحملها في ذاكرتي باستمرار و أعيد تفقدها كل يوم كما لو انها كنزي الأخير، أُزيل غبار الحاضر و مشاكله عنها و من ثم اعيد ترتيبها و مراجعتها بعناية و إتقان، خوفآ من ضمورها من تطاول الزمن عليها و دفنها في مجاهل عميقة و من تلفها بمرض الذاكرة المسمى النسيان، إنها الشيء الوحيد الذي يساعدني على ثبات قلبي و عقلي في مواجهة كل هذا العبث و الجنون و الرداءة و القرف و الفوضى وسط هذا الجحيم و أيامه الجهنمية التي يمر بها وطني الحبيب الان، اكتب هذه الكلمات الان بينما تتردد في اذني بواسطة سماعة هاتفي أغنية القناص، قد لمعت عيناه .. بالعزم انتفضت يمناه .. في هدوء الليل .. من هو الصامد المغامر في وجه السيل.
إرسال تعليق